من الثابت أن الحضارة العربية الإسلامية قد اهتمت بالعلوم الفلكية بل وقدمت إنجازات علمية مهمة في مرحلة من مراحل تطور هذا العلوم رغم محاولات البعض القفز فوق الإنجازات التي قدمها العرب والمسلمون للعلوم بشكل عام.
ونحن سنحاول في هذا الفصل تسليط ضوء خافت على بعض الإنجازات العربية الإسلامية في مجال علم الفلك قبل الإطلالة على وقع هذا العلم وإنجازاته.
عرف أبو الفارابي (257 هـ ـ 339 هـ ) علم الفلك بقوله : < وإن علم النجوم يشمل على قسمين أحدهما علم دلالات الكواكب على المستقبل. والثاني العلم التعليمي. وهذا الثاني هو الذي يعد من العلوم ... يبحث فيه عن الأجرام السماوية وعن الأرض من ثلاثة وجوه: الأول يبحث فيه عن عدد تلك الأجرام وأشكالها وترتيبها ومقاديرها وأبعادها عن الأرض، الوجه الثاني يبحث فيه عن حركات الأجرام السماوية، وكم هي، وهل هي كروية، أما الوجه الثالث فيبحث فيه عن الأرض والمعمور والخراب، وتقسيم المعمور إلى أقاليم وما تسببه الكرة اليومية من المطالع والمغارب واختلاف طول النهار في الأقاليم >.
ويعرف إبن خلدون ( 732 هـ ـ 808 هـ ) علم الفلك أو علم الهيئة، كما يسميه العرب، فيقول: < هو علم ينظر في حركات الكواكب الثابتة والمتحركة والمتحيرة ويستدل من تلك الحركات على أشكال وأوضاع للأفلاك لزمت عنها بطرق هندسية ويقوم على الرصد لا على التنجيم > ويميزه عن علم التنجيم الذي هو < معرفة الدلالات النجومية ومقتضى أوضاعها في الفلك وآثارها في العناصر البشرية، والغاية منه معرفى الغيب والتأثير في البشر >.
اهتم العرب بالفلك وطوروه كثيرا لارتباطه بأمور دينهم وما يقدمه الفلك من برهان ساطع على وجود الله وعظمته، وهندسته البديعة في مشهد قبة السماء وهو ما عبرت عنه الآية الشريفة : << إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا، وعلى جنوبهم، ويتعفكرون في خلق السماوات والأرض، ربنا ما خلقت هذا ياطلا >>.
ثم إن أمور الدين تتطلب معرفة واسعة بأصول علم الفلك من تحديد أوقات الصلاة ليتمكن المؤمن من تحديد موعد الآذان بدقة خمس مرات في اليوم. والمؤمن مسوق بحسابات دقيقة تسهل عليها رؤية ظهور القمر في أول شهر رمضان ونهايته لتحديد العيدين. يضاف إلى ذلك تحديد وقت الغروب والإمساك في شهر الصوم، وتحديد اتجاه مكة المكرمة حيث القبلة. بالاضافة إلى صلاة الكسوف والخسوف ... ولا تتم هذه الأمور إلا بمعرفة دقيقة للفلك وقونينه، فمعرفة الفلك تعطي للمؤمن شعورا بالإرتياح الديني، وضمانة بأنه أدى صلاته وصومه وحجه في مواعيدها.
ومن النوافل القول إن العرب لم يكونوا أول من اهتم بعلم الفلك. فقد رسم البابليون عام 500 م قبة السماء بشكل هندسي ووضعوا خريطة للكون بشكل دائرة تتوسطها الأرض. ثم جاء اليوناني فون ساموخ فوضع الشمس مكان الأرض في خريطة الكون كمركز وقلب العالم. فلم يتقبل اليونان آراءه. وجاء بعده هيبارخسوس فصنع الآلات الدقيقة كالأسطرلاب ورصد النجوم والكواكب رصدا علميا، وانتهى الأور إلى بطليموس الذي جمع معارف عصره فصار المرجع الأول والأخير في علم الفلك القديم.
ويمكن إيجاز الرأي الفلكي اليوناني القديم على النحو التالي: الأرض مركز الكون. تدور الكواكب والنجوم حولها. القمر أرب الكواكب إلى الأرض وفوقه عطارد فالزهرة فالمريخ فالمشتري ... فالنجوم. وبقي الرأي اليوناني سائدا ووافقهم العرب عليه، واستمر الأمر على هذه الحال حتى القرن السادس عشر الميلادي ومجيء كوبرنسكوس.
استمد العرب علومهم الفلكية الأولى مما توارثوه من آبائهن من جهة، وخاصة من الكتب التي ترجموها من جهة ثانية.وكان أول كتاب نقل في الفلك من اليونانية إلى العربية الكتاب المنسوب إلى هرمس الحكم واسمه مفتاح النجوم. وفي عهد الخليفة المنصور العباسي ثم نقل كتاب السند هند إلى العربية ونقله الفزاري، وعمل على مناوله كتابا اتخده العرب أصلا في حركات الكواكب. وبقي معمولا به إلى أيام المأمون، وقد اختصره الخوارزمي ووضع منه زيجه المشهور. ونقل ابن البطريق كتاب الأربع مقالات في صناعة أحكام النجوم لبطليموس، وترجم الحجاج بن مطر كتابي المجسطي والأصدل لأقليدوس.
وتعتبر الكتب المنقولة موردا نهل منه العرب ما ورثوه من علوم السابقين. إلا أن العرب لم يكتفوا بالنقل وأدركوا أن علم الفلك لا يبنى إلا على الرصد والمشاهدة واستخدام الرياضيات .. أي علم المنهج العلمي.
وبالفعل قد فقد اختبروا ما جاء في كتب اليونان واعادوا تجاربهم، فإذا جاءت التجربة الرصدية موافقة النظرية اليونانية لا يقبلونها على الفور بل يجربونها مرة ثانية زيادة في التثبت.
انتقدوا بطليموس وصححوا أخطاءه وحساباته كما فعل كل من جابر بن الأفلح وابو إسحق البطروخي. وضعوا الأزياج الدقيقة، وبنوا المراصد، ورسموا الخرائط الفلكية وأجروا حساباتهم التي دهش لها العالم. ولا يجب أن يغيب عن بالنا أنهم أول من طهر علم الفلك من أدران التنجيم ونادى ببطلان التنجيم وسفه أقوال المنجمين وهذا واضح في كتابات الفرابي والكندي وابن سينا الذي يقول : < ليس على شيء مما وصفوه دليل ولا يشهد على صحته قياس > ويبلغ التهكم على المنجمين ونقدهم ذروته في مقدمة ابن خلدون.
الآلات الفلكية
معظم الآلات الفلكية من أصل يوناني ولكن العرب أدخلوا عليها بعض التحسينات وأجادوا صنعها، وأشهر هذه الآلات :
ـ الأسطرلاب أو الأصرلاب ( بالسين أو بلاصاد ): آلة فلكية يونانية (الأسطرلابون) ومعناها : مرآة النجوم. ومن الأسطرلاب اشتق اليونان اسم اسطرونيما ( علم الفلك ). ويطلق الأسطرلاب على عدة آلات فلكية منها : التام والمسطح والطوماري والهلالي والعقربي والقوسي والزرقالة ... وهناك الأسطرلاب الكروي وهو خاص بارتفاعات الكواكب عن خط الأفق.
ويذكر ابن الشاطر أنه إخترع آلة سماها : الأصطرلاب أو الربع التام. وقيل إن الفزاري أول من عمل اصطرلابا في الإسلام. حتى أن الفتح بن نجبة لقب بالأصطرلابي لإجادته صنع الأصطرلاب. وأعظم من أتقن صنع آلات الأصطرلاب بأنواعها البديع الأصطرلابي ( 379 هـ ).
ـ اللبنة : جسم مربع مستور يعرف به الميل الكلي وأبعاد الكواكب.
ـ الحلقة الاعتدالية : حلقة تنصب على سطح دائرة المعدل لمعرفة التحول الاعتدالي.
ـ ذات الأوتار : تتألف من أربع اسطوانات يعلم بها تحويل الليل.
ـ ذات الحلق : أعظم الآلات هيئة ومدلولا. وهي خمس دوائر متخذة من نحاس. الأولى دائرة تصف النهار وهي مركوزة على الأرض، دائرة معدل النهار، دائرة منطقة البروج، دائرة العرض، دائرة الميل، وأخيرا الدائرة الشمسية. والأخيرة وعروفة عند القدماء باسم الكرة السماوية.
ـ ذات الشعبتين : وهي ثلاث مساطر على كرسي يعرف بها الارتفاع.
ـ ذات السمت والارتفاع : وهي نصف حركة يعرف بها السمت.
ـ ذات الجيب : مسطرتان منتظمتان انتظام ذات الشعبتين.
ـ المشبهة الناطقة : يعرف بها ما بين الكواكب من بعد.
ـ الربع المسطري.
ـ ذات التقبتين.
ـ البتام الرصدي.
الأزياج الفلكية
يحددها ابن خلدون بالقول : < هي قوانين لحساب حركات الكواكب وتعذيلها للوقوف على مواضيعها >. ثم يضيف : < صناعة حسابية على قوانين فيما يخص كل كوكب من طريق حركته، وما أدى إليه برهان الهيئة في وصفه من سرعة وبطء واستقامة ورجوع وغير ذلك ... وتوضع في جداول تسهيلا على المتعلمين>. ولكل عالم وراصد وناقل إلى العربية زيج يعرف باسمه أو باسم من أهدي إليه وأشهر الأزياج العربية :
ـ زيج الفزاري حول فيه السنين الهندية إلى سنين هلالية عربية.
ـ زيج الخوارزمي وهو مختصر لكتاب السند هند. خالف فيه الخوارزمي مذهب الهند، وعدله على مذهب الفرس، وذهب في ميل الشمس مذهب بطليموس.
ـ زيج سند ابن علي (850 م). وضعه في عهد المأمون أثناء رصده في مرصد الشماسية ببغداد.
ـ أزياج أبناء موسى بن شاكر ولهم الزيج المصحح.
ـ زيج نصير الدين الطوسي ( 597 ـ 672 ) وقد وضعه بالفارسية في أرب مقالات : الأولى في التاريخ، والثانية في سير الكواكب ومواضعها، والثالثة في أوقات المطالع، والرابعة في أحكام النجوم.
وتحفل كتب التاريخ بالإشارة إلى عشرات الأزياج الأخرى من بينها زيج ملكشاه للشاعر عمر الخيام (515 هـ).
المراصد الفلكية
أقبل العرب والمسلمون على بناء المراصد بدافع من إيمانهم العميق بقيمة التجربة والمشاهدة في مجال البحث والكشف العلميين وقد جمعوا للمراصد علماء العصر وزودوها بالآلات الدقيقة وبالكتب النفيسة. من أشهر هذه المراصد :
ـ ابتنى المأمون مرصدين الأولى على جبل قاسيوس في دمشق. والثاني في الشماسية ببغداد. وقد رصد فيه الجوهري وسند بن علي.
ـ لبتنى أولاد موسى بن شاكر مرصدا في بغداد على طرف الجسر.
ـ ابتنى شرف الدولة البويهي مرصدا في بستان دار المملكة وجمع له الكوهي والبوزجاني والصاغاني.
ـ أنشأ الفاطميون في مصر مرصدا عرف باسم المرصد الحاكمي.
ـ أنشأ بنو الأعلم مرصدا عرف باسمهم.
ـ أما مرصد المراغة الذي بناه نصير الدين الطوسي فهو أشهر وأكبر المراصد الإسلامية. اشتهر بآلاته الدقيقة وبمكتبته التي تضم 400000 مجلدا، وعلمائه نذكر منهم : الفخر الراغي من الموصل، والفخر الخلاطي من تفليس ونجم الدين القزويني، والمؤيد العرضي من دمشق.
إنجازات العرب في علم الفلك
ـ محاولات احتساب محيط الأرض.
ـ حسب البتاني ميل فلك البروج على فلك معدل النهار فوجده 23 و 35 ثانية وقد أصاب إلى حد دقيقة واحدة.
ـ حسب البتاني طول السنة الشمسية وأخطأ بمقدار دقيقتين و 22 ثانية. والسنة الشمسية هي المدة التي تقطعها الشمس حتى عودتها إلى مكانها بين النجوم وطولها 365 يوما و6 ساعات و9 دقائق 8،97 ثانية.
ـ رصد العرب الاعتداليين مرتين في السنة الولى في 21 أو 22 آذار. الثانية في 22 أو 23 أيلول. كما كتب العرب عن كلف الشمس وعرفوه قبل الأوربيين.
ـ وضع العرب الخرائط المصورة وحددوا مواقع النجوم بدقة. وجمع الصوفي ألف نجمة في خريطته الفلكية.
ـ راقب بطليموس وأسلافه حركة دائرة البروج فوجدها درجة كل مائة سنة. أما الصوفي فوجدها درجة كل 66 سنة وهي الآن درجة كل 77 سنة ونصف السنة.
ـ وضع عمر الخيام تقويما أدق من التقويم الغريغوري ( الميلادي المعتمد ) الذي يؤدي إلى خطأ مقداره يوم كل 3330 سنة، بينما الخطأ الذي ينجم عن تقويم الخيام هو يوم كل 5000 سنة، ويقال إن البيروني أصلح التقويم السنوي فكان الخطأ يومين كل عشر آلاف سنة.
ـ وضع الفرغاني والبيروني وابن يونس والبتاني أزياجا جغرافية رسموا فيها خطوط الطول والعرض.
ـ يعتبر العرب أول من راقبوا تغيير أوج الشمس ( أقصى حد في البعد بين الشمس والأرض ) والحضيض ( أقرب بعد بين الشمس والأرض ).
وخير دليل على مآثر العرب في الفلك هو تلك الأسماء العربية للعديد من الكواكب والنجوم التي لا تزال على أية خريطة من خرائط السماء.
أشهر علماء العرب في الفلك
ـ أولاد موسى بن شاكر محمد وأحمد والحسن. نبغوا في عصر المأمون. قاسوا محيط الأرض وبنو مرصدا على جسر بغداد.
ـ عبد الرحمن الصوفي ( 291 ـ 376 هـ ): زيجه يسمى الصوفي. رصد الكواكب الثابتة وأماكنها وسيرها. له كتاب الأرجوز في الكواكب الثابتة.
ـ أبو الوفاء البوزجاني ( 328 ـ 387 هـ ): ولد في بوزجان القريبة من نيسابور ثم انتقل غلى بغداد. شرح مؤلفات إقليدس والخوارزمي. وكان من العاملين في مرصد شرف الدولة. من أشهر كتبه الزيج الشامل.
ـ أبو عبد الله البتاني ( 317 ـ 929 هـ ): واسمه محمد بن جابر الحراني الصابىء: هو صاحب الزيج المعروف بزيج الصابىء الذي ترجم إلى اللاتينية في نورمبرج سنة 1537. وقالووا إنه أصح من زيج بطليموس. ويعتبر أول من كشف السمت والنظير وحدد نقطتيهما في السماء. والكلمتان عند علماء الفلك الإفرنج عربيتان. واكتشف حركة الأوج الشمسي وتقدم المدار الشمسي وانحرافه والجيب الهندسي والأوتار. ويقول المستشرق نللينو أن له رصودا جليلة للكسوف والخسوف اعتمد عليها دنتون سنة 1749 في تحديد تسارع القمر في حركته خلال قرن من الزمان. وقال لاند الفلكي الفرنسي: < البتاني أحد الفلكيين العشرين الأئمة الذين ظهروا في العالم كله >.
ـ نصير الدين الطوسي ( 597 ـ 676 هـ ): لا يقل أهمية عن سابقه. ولد في طوس، وكان ذا مكانة في بلاط هولاكو. أنفق الأموال التي عهد إليه بها هولاكو في شراء الكتب النادرة. بنى مرصد مراغة أهم مرصد في العالم يومذاك. استقطب العلماء من أقاصي الدنيا الأربع وجمع مكتبة هائلة حوالي 400000 كتاب. انتقد المجسطي في أبحاثه الفلكية وله الزيج الأيلخاني والزيج الشاهي.
1 التعليقات:
شكراا على المعلومات
إرسال تعليق